التقوى معيار الكرامة عند الله

عنوان المقال:

كرامة الإنسان بالتقوى

مقدمة

في سياق الدعوة إلى المساواة بين البشر، ونبذ العصبية، وقطع جذور التفاخر بالأصل والنسب والمال، تأتي آية عظيمة في كتاب الله عز وجل لتُقَرِّر قاعدة ربانية خالدة، ومعيارًا إلهيًا حاسمًا للتفاضل بين الناس، حيث قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]

هذه الآية الكريمة تقرر أصل البشرية ووحدتها، وتُبَيِّن أن التمايز الحقيقي عند الله لا يكون بالجنس أو العِرق أو النسب أو اللون، بل يكون بالتقوى، وهو ميزان الله الذي لا يخضع لمعايير البشر السطحية. إنها آية تهدم الفوارق المصطنعة، وتؤسس لمنظومة أخلاقية واجتماعية عادلة تُكرّم الإنسان لا بحسب نسبه أو ماله، بل بحسب صلاحه وتقواه.

التحليل اللفظي للآية

تتألف هذه الآية من عدة وحدات دلالية مترابطة:

• “يا أيها الناس”: نداء عام شامل لكل بني آدم، دون تخصيص للمؤمنين أو غيرهم، مما يدل على أن الخطاب يتجاوز حدود العقيدة إلى الإنسان ككائن مخلوق لله.

• “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى”: بيان لأصل البشرية الواحد، وهو آدم وحواء، في إشارة مباشرة إلى تساوي الناس في الخلقة، فلا فضل لأحد في أصل وجوده.

• “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”: إشارة إلى حكمة التنوّع في الأمم والقبائل، وهو التعارف والتكامل لا التنافر أو التعالي. فاختلاف الأعراق والجغرافيا ليس للتفاخر، بل لمعرفة بعضهم بعضًا.

• “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”: تقرير لمعيار التفاضل، وهو التقوى، لا المال ولا الجاه ولا اللون. والتقوى مقام قلبي يتجلى في الطاعة والورع والخشية.

• “إن الله عليم خبير”: ختم الآية بتأكيد علم الله الباطني والظاهري، فهو وحده العالم بالنيات، والخبير بالأعمال، مما يدل على أن هذا الميزان الإلهي لا يمكن تزويره.

المعنى الإجمالي للآية

تشير الآية إلى المساواة الكاملة بين جميع أفراد البشر في أصل الخلق، وتُبَيِّن أن الله خلق الناس من أصل واحد، ذكَرٍ وأنثى، وأن التنوع اللاحق إلى شعوب وقبائل هو لأجل التعارف والتكامل الحضاري والثقافي، لا للتفاخر أو العنصرية. كما تُقَرِّر أن معيار التفاضل الوحيد في ميزان الله هو التقوى، أي خشية الله وطاعته، ومجانبة المعاصي. ويختم الله الآية بالتذكير بعلمه المحيط بكل شيء، ليؤكد أن هذا الميزان لا يعرف التزوير، ولا يُمكن خداع الله بالمظاهر.

أهمية هذه الآية في تأسيس مبدأ المساواة

من القيم العظيمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية إقرار مبدأ المساواة بين الناس، وهذه الآية تعتبر من أوضح النصوص القرآنية في تقرير هذا المبدأ، حيث تُلغِي كل المعايير الجاهلية التي كانت سائدة، مثل التفاضل بالقبيلة أو النسب أو اللون أو المال.

وفي هذا السياق، تُشكِّل الآية قاعدة أخلاقية عظيمة في بناء المجتمعات، وتُرسِّخ العدالة الاجتماعية، حيث لا يُمكن احتقار أحد بسبب لونه أو جنسه أو طبقته الاجتماعية، فالتفاضل عند الله بالتقوى والعمل الصالح.

الربط بين التقوى والكرامة الإنسانية

لقد ربطت الآية الكريمة بين الكرامة والتقوى، مما يعني أن الإنسان لا ينال كرامته عند الله إلا إذا كان تقيًا.

والتقوى لا تقتصر على مظاهر خارجية، بل هي سلوك دائم، وخشية مستمرة، ومراقبة لله في السر والعلن. فكلما زادت تقوى الإنسان، زاد قدره عند الله، ولو كان فقيرًا أو غير معروف بين الناس.

وفي هذا المعنى يقول النبي ﷺ:

“إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” [رواه مسلم].

وهذا الحديث يكمّل معنى الآية، حيث أن الله لا يُقيّم الناس بحسب المظهر أو المال أو المركز الاجتماعي، بل بحسب القلب والتقوى والعمل.

الآثار الاجتماعية والسياسية للآية

لو أن المجتمعات الإسلامية والعالمية طبّقت مبدأ هذه الآية، لانتهت العديد من الأمراض الاجتماعية مثل:

• العنصرية: وهي ظاهرة مقيتة تقوم على التفاضل بين الناس بسبب اللون أو الأصل أو العِرق.

• الطبقية الاجتماعية: التي تؤدي إلى احتقار الفقير أو تقليل شأن الضعيف.

• التمييز الوظيفي أو التعليمي: الذي لا يقوم على الكفاءة، بل على العلاقات أو المظاهر.

كما أن هذه الآية تعزز مفاهيم العدالة والاستحقاق، لأن الإنسان يُقَدَّر بما يحمل من تقوى وخلق، لا بما يملكه من مال أو جاه. ويُسْتَدل بها أيضًا في نقاشات المساواة بين الشعوب، ورفض الاستعمار والهيمنة الثقافية التي تُفْرَض من دول على أخرى بحجة التفوق العرقي أو الحضاري.

تطبيقات عملية لمضمون الآية في المجتمع

أقوال العلماء والمفسرين في تفسير الآية

• قال ابن كثير في تفسيره: “يقول تعالى منبهًا بني آدم على تساويهم في البشرية، وأنهم بنو رجل واحد وامرأة واحدة، وأن التفاخر والتكاثر إنما يكون بالتقوى لا بالأحساب”.

• وذكر القرطبي: “هذه الآية أصلٌ في ترك التفاخر بالأنساب، ودليل على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم”.

• وقال الطبري: “أخبر الله جل ثناؤه عباده أن أكرمهم عنده أتقاهم له، لا أكثرهم مالاً، ولا أعظمهم نسبًا”.

وهذا الاتفاق بين أئمة التفسير يرسّخ المعنى الأصيل للآية، ويُظْهِر أنها جاءت لتُحْدِث ثورة مفاهيمية في عقول الناس حول معنى الكرامة.

التقوى: ماهيتها ومظاهرها

التقوى في اللغة مأخوذة من الوقاية، أما في الاصطلاح فهي خشية الله ومراقبته، والعمل بما أمر، وترك ما نهى، على بصيرة ويقين.

مظاهر التقوى تشمل:

1. الإخلاص في النية والقول والعمل.

2. أداء العبادات على الوجه الصحيح.

3. البعد عن الظلم والعدوان.

4. الصدق في المعاملة.

5. حب الخير للناس.

6. العفة عن المال الحرام.

7. التواضع مع الخَلق.

ومن يتصف بهذه الصفات، فإنه عند الله أكرم، وإن كان في نظر الناس مجهولًا أو محتقرًا.

الآية في ضوء السيرة النبوية

النبي محمد ﷺ جسَّد هذه الآية قولًا وفعلًا، ففي خطبة حجة الوداع قال:

“يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى”.

وقد طبّق النبي هذا المبدأ حين ولّى بلال بن رباح، وهو عبد حبشي سابق، على الأذان، وجعل صهيب الرومي وسلمان الفارسي من خاصة أصحابه. وكان ﷺ يُعَلِّم أصحابه ألا ينظروا إلى الأنساب، بل إلى القلوب والتقوى.

خاتمة

آية: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ تمثل قاعدة أساسية في بناء منظومة قيمية إسلامية عادلة، لا تعتمد على المظاهر، بل على جوهر الإنسان وتقواه. إنها دعوة لتحرير العقل من العصبيات الموروثة، وتوجيه مباشر إلى أن الكرامة الحقيقية ليست في المال ولا الجاه، بل في الاستقامة ومراقبة الله. فكل من أراد أن يرتقي في ميزان السماء، فعليه أن يُنمّي التقوى في قلبه وسلوكه، لأن هذا هو المعيار الإلهي الوحيد الذي لا يتبدّل ولا يُزَوَّر.

المراجع

1. تفسير ابن كثير، الجزء السابع.

2. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، الجزء السادس عشر.